القدس بعد ثورة البراق وحتى نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى – جريدة اخر الاسبوع

القدس بعد ثورة البراق وحتى نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى

– تقرير حنان أمين سيف_

البراق هو جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف وقد كان ادعاء اليهود بملكيته سبباً في التوتر الذي نجمت عنه اضطرابات عنيفة في آب من عام 1929 بين العرب واليهود في القدس، وفي أنحاء عديدة من فلسطين وهو ما عرف بـ “ثورة البراق”.
لا يوجد مكان على الأرض تتنازعه مشاعر المسلمين وأتباع اليهودية مثلما هو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، فهو يمثل بالنسبة لليهود آخر ما تبقى من هيكل سليمان، الذي يهوي إليه فؤاد اليهودي منذ أن دمر الرومان الهيكل عام 70م وشتتوا عباده في كل اتجاه، وهو المكان الذي ركن إليه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) البراق المجنح الذي حمله من مرقده في إسرائه ومعراجه إلى السماء مروراً ببيت المقدس. يسميه اليهود “حائط المبكى”- حائط البكاء على ما حل بهيكلهم وأسلافهم، ويسميه المسلمون “حائط البراق”.

ثورة البراق عام ١٩٢٩، كان أثر عظيم على مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، كانت هذه آخر انتفاضة موجهة بشكل مباشر ضد اليهود، دون الاستعمار البريطاني الذي يؤدي دور حاضنة المشروع الصهيوني، فقد فهم العرب أن منبع مصائبهم إنما هو الدولة العظمى، والتي وعدت اليهود بدولة على حساب الشعب الفلسطيني وطموحاته، وصار على الفلسطينيين أن يعيدوا حساباتهم، فالحرب ضد دولة عظمى أصعب بكثير من الهجوم على عصابات صهيونية هنا وهناك.

أما على الصعيد الصهيوني، فكان التحول كبيرا وفِي صالح مشروعهم القادم، فبعد أحداث عام ١٩٢٩، انضوى كل اليهود، شرقيين وغربيين، أصلانيين وقادمين، تحت لواء الحركة الصهيونية، لأنها أقنعتهم بأن بإمكانها حمايتهم من “المتوحشين” العرب المتعطشين لإراقة الدم اليهودي، وصار اليهود بعد ثورة البراق يعتبرون المقاتلين والمجموعات المسلحة منهم، بأنهم أصحاب مرتبة رفيعة، وبذلك تشكلت الروح الأمنية الصهيونية.

لا ريب في أن العرب كانوا الخاسرين من هذه الانتفاضة، وصاروا بأمس الحاجة إلى حركة وطنية تقودهم في نضالهم المرير القادم من أجل درء المشروع الصهيوني، بينما استغل “الرابحون” ، أي الحركة الصهيونية، من هذه الأحداث، الأوضاع الجديدة استغلالا كان له أكبر الأثر في المعارك القادمة وحتى على معارك عام ١٩٤٨، ونكبة شعبنا الكبيرة.

أما القدس، فقد كانت في قلب كل معركة أو حدث كبير خاضه الشعب الفلسطيني، كما سنرى لاحقا في هذه العجالة.

ما بين انتفاضة البراق حتى ثورة ١٩٣٦

توالت الأحداث بعد ثورة البراق، فألفت بريطانيا لجنة “شو” لبحث أسباب قيام الثورة، والتي نشرت نتائج تحقيقاتها في آذار/ مارس ١٩٣٠، ووصلت إلى نتيجة مفادها أن هناك حاجة لتأمين الفلاحين العرب في أراضيهم، وأن هؤلاء الفلاحين مهتمون بالسياسة أكثر بكثير من نظرائهم الأوروبيين، وأن سيطرة اليهود على الأرض، وانتزاعها من الفلاح العربي، وزيادة الهجرة اليهودية في السنتين اللتين سبقتا ثورة البراق، كان لها أكبر الأثر في انفجار غضب الجمهور العربي على اليهود. وأوصت اللجنة بقدوم “سير هوب سمبسون” إلى فلسطين ليدرس مسألة الهجرة اليهودية، وتأثيرها على العرب، فتوصل هذا إلى أن ٢٩٪؜ من العائلات العربية أصبحت بلا أرض، بسبب إرغامهم على مغادرة أراضيهم بفعل الضرائب الباهظة من جهة وانتقال الأراضي لليهود من جهة أخرى.

استنادا إلى تقرير لجنة “شو” وتقرير “سمبسون”، أصدرت الحكومة البريطانية “الكتاب الأبيض”، وذلك في تشرين أول/ أكتوبر عام ١٩٣٠، وأعلن هذا الكتاب “بكل حزم عدم وجود أراضٍ في فلسطين صالحة لاستقرار المهاجرين الجدد، باستثناء أراضي الوكالة اليهودية” وأنه “من الخطأ أن يتبادر للذهن أن حكومة فلسطين تملك مساحة شاسعة من الأراضي لوضعها تحت تصرف اليهود”. ورغم أن الكتاب الأبيض، شدد على التزام بريطانيا بوعد بلفور وصك الانتداب بما يخص ذلك، وحق اليهود في إقامة دولتهم تحت رعاية بريطانيا، إلا أن الحركة الصهيونية قامت ولَم تقعد غضبا مما توصلت إليه الحكومة البريطانية، واستقال حاييم وايزمان من رئاسة الوكالة الصهيونية احتجاجا، وتسلمت عصبة الأمم احتجاجا من ٤٨ دولة على قرارات الكتاب الأبيض وتأييدا لوايزمان، مما حدا بالحكومة البريطانية إلى التراجع عن كتابها هذا بعد عشرين يوما من إصداره، وذلك في رسالة من رئيس الوزراء البريطاني إلى وايزمان يؤكد فيها التزام بريطانيا بدعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فيما أسماه العرب بـ”الكتاب الأسود”، لانسحاب بريطانيا من خلاله عن قرارات الكتاب الأبيض.

كان الكتاب الأسود يعتبر لطمة قوية للزعامة العربية التقليدية، وعلى رأسها الحاج أمين الحسيني، والذي كان يعمد إلى التساهل مع بريطانيا وعدم التصادم معها، وابتدأت الدعوات من أجل التسلّح ضد بريطانيا، وكثرت المظاهرات الفلسطينية في كافة أنحاء البلاد، مما حدا بالحاج أمين الحسيني إلى الدعوة إلى عقد المؤتمر الاسلامي في القدس، بتاريخ الرابع من كانون أول/ ديسمبر عام ١٩٣١، ودعا المؤتمر إلى مقاطعة البضائع اليهودية، ونادى بوجوب وقف الهجرة اليهودية، وقرر إنشاء جامعة إسلامية في القدس، ولكن كل قراراته بقيت حبرا على ورق إذ لم يكن بالإمكان تحقيقها بسبب أن العالم الإسلامي كان تحت الحكم البريطاني والفرنسي.

واستمر عقد المؤتمرات بعدها، كالمؤتمر القومي العربي في ١٣ كانون أول/ ديسمبر ١٩٣١، الذي رفع مكانة الاستقلاليين العرب، وتتابعت الاحتجاجات العربية، حتى عقد اجتماع للجنة التنفيذية العربية في الثامن من تشرين أول/ أكتوبر ١٩٣٣، وقرر الاجتماع إعلان الإضراب العام وتنظيم مظاهرة ضخمة في القدس، في يوم الجمعة الموافق ١٣ تشرين أول/ أكتوبر. وكانت هذه المظاهرة بداية لانطلاق انتفاضة عام ١٩٣٣، حيث قررت اللجنة التنفيذية العربية إعلان الإضراب بعدها بأسبوعين، وتنظيم مظاهرة قطرية أخرى في يافا، حيث قامت الشرطة بالاعتداء على هذه المظاهرة وقمعها بالقوة، مما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء، واستمرار المظاهرات في أنحاء أخرى من فلسطين لمدة أسبوع. وكانت هذه هي الانتفاضة أو الثورة الأولى الموجهة ضد بريطانيا مباشرة، وليس ضد اليهود. (لمزيد من المعلومات عن انتفاضة ١٩٣٣، انظر الحلقة ١٦/١ بعنوان انتفضات يافا ١٩٢١، ١٩٢٩، ١٩٣٣).

صراع العائلات المقدسية على السلطة

كما ذكرنا في الحلقة السابقة، قام الحاكم العسكري للقدس بعزل رئيس بلدية القدس، موسى كاظم الحسيني من منصبه، وتعيين راغب النشاشيبي بدلا منه، وذلك في أعقاب انتفاضة النبي موسى عام ١٩٢٠، وبهذه الخطوة الخبيثة زادت حدة المنافسة القائمة بين العائلتين المقدستين البارزتين: آلِ الحسيني وآل نشاشيبي، هذا التنافس الذي كان قائما منذ العهد العثماني قبل الاحتلال البريطاني، ولكن السلطات الانتدابية اعتمدت سياسة التعيين في المناصب الرسمية لتغذية روح المنافسة بين العائلتين، ولَم تكن خطوة تعيين النشاشيبي لرئاسة البلدية هي الخطوة الوحيدة من نوعها، حيث قام المندوب السامي بمساعدة الحاج أمين الحسيني في الحصول على منصب مفتي القدس، وكان ذلك عام ١٩٢١، وبهذا التنصيب حققت السلطة غرضين: الأول أن حدة المنافسة ازدادت بين العائلتين بسبب توزع السلطة في القدس بينهما؛ والثاني كان انتهاج العائلتين سياسة المهادنة مع سلطة الانتداب من أجل الحفاظ على مركز كل منها، وتقوية نفوذها في المجتمع المقدسي على حساب العائلة الأخرى.

وكان نهج العائلات المتنافسة في القدس، وغيرها من العائلات الكبيرة في فلسطين، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول هو الذي تهادن وتماشى بشكل كبير وأحيانا بشكل كامل مع السياسة البريطانية. من الممكن أن هذا الجزء كان يعارض وعد بلفور وإقامة الوطن القومي للحركة الصهيونية، إلا أنه وفِي مقابل الحصول على مناصب هامة، لم يقاوم ولَم يواجه السلطة الاحتلالية بل تماشى معها، وتحالف مع الأمير عبد الله من شرق الأردن. ولم يكتفوا بهذا فحسب بل إن قسما منهم، ساهم في إنشاء فصائل السلام والتي لعبت دورا هاما في الثورة المضادة خلال ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩، كما فعل فخري النشاشيبي والذي اغتيل عام ١٩٤١ في العراق، وكانت الثورة الفلسطينية قد أصدرت قرارا بتصفيته خلال سني الثورة. وقف على رأس هذه المجموعة المتهادنة، رئيس بلدية القدس فخري النشاشيبي والذي تبوأ مناصب رفيعة إبان الحكم الأردني للضفة الغربية. ومن الشخصيات المقدسية البارزة من هذه المجموعة نذكر: أمين عبد الهادي، وروحي عبد الهادي، وحسام الدين جار الله، ورشدي وعادل الشوا وغيرهم.

أما الفئة الثانية فكان على رأسها الحاج أمين الحسيني، الذي تبوأ منصب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى عام ١٩٢٣، ومنصب رئيس الهيئة العربية العليا بعد تأسيسها في بداية ثورة ١٩٣٦، كما اعتبر القائد الفلسطيني الأول قطريا، فهذان المنصبان كانا يؤهلانه للتصرف كأنه السلطة الوطنية التي تعني بشؤون الشعب الفلسطيني بالتوازي مع سلطة الانتداب. هذه الفئة سلكت طريق معارضة السياسة البريطانية، ومحاولة توجيه كل المظاهرات، التي أرادتها هذه الفئة سلمية، ضد اليهود أساسا، وليس ضد حكومة الاحتلال. واستمر هذا النهج حتى قيام الثورة عام ١٩٣٦، حيث تغير الحاج أمين الحسيني، إذ كان مضطرا إلى مواجهة بريطانيا عسكريا من خلال الثورة.

ومن هذه الفئة نذكر موسى كاظم الحسيني، رئيس بلدية القدس المعزول عام ١٩٢٠، وكان يتبوأ منصب رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي والذي ابتدأ بالانعقاد عام ١٩١٩، وفِي دورته الثالثة عام ١٩٢١، انتخب لجنة تنفيذية وكان يقف على رأسها موسى كاظم الحسيني حتى وفاته أو استشهاده في أعقاب الاعتداء عليه من قبل الشرطة البريطانية في مظاهرة يافا والتي انفجرت بعدها انتفاضة ١٩٣٣.

وهكذا انقسمت الحركة الوطنية الفلسطينية بين هاتين الفئتين: “المجلسيون” وهم أنصار آلِ الحسيني بزعامة الحاج أمين الحسيني، و”المعارضون” أنصار آلِ النشاشيبي، بزعامة راغب النشاشيبي وهم المعارضون لآل الحسيني والمجلس الإسلامي الأعلى، وامتد هذا الصراع إلى جميع جوانب الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في فلسطين. وكان لاشتداد التنافس بين الفئتين أكبر الأثر في خمود الحركة الجماهيرية في العشرينات حتى اندلاع ثورة البراق عام ١٩٢٩، حيث حاول المجلسيون استبعاد المعارضين من الحركة الوطنية إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك، بل جاءت النتيجة عكسية، واستطاع المعارضون التمثل في المجلس الإسلامي الأعلى بقوة، وذلك في المؤتمر الوطني السابع عام ١٩٢٨، حيث شارك في هذا المؤتمر عدد كبير من المندوبين الذين لا يمتون للعمل السياسي بصلة، وكانت نقاشات المؤتمر على شاكلة المندوبين، إذ قام ببحث قضايا زراعية، والضرائب وغيرها، ولَم يتعرض المؤتمر بالمرة لقضية الاستقلال أو إلغاء الانتداب. واستمر التنافس بين الفئتين حتى النكبة، وكان له تأثير سلبي كبير على الحركة الوطنية الفلسطينية، فكما تقدم خلال الثورة قام بعض المعارضين بممارسات أضرت بشكل كبير باستمرارية الثورة وانقسامها على بعضها، بل إن الخلافات بين هاتين الفئتين أثرت سلبا على مفاومة الفلسطينيين خلال معارك النكبة في الأعوام ١٩٤٧-١٩٤٨.

هذا ما كان من شأن هاتين الفئتين، أما الفئة الثالثة فكانت تحمل الاحتلال البريطاني وزر الأوضاع المتفاقمة في فلسطين، بسبب دعمه للحركة الصهيونية بكافة الوسائل، وكانت هذه الفئة تدعو للكفاح المسلح، وانخرط قسم كبير منها في ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩، ومنهم داوود الحسيني، الذي انضم إلى المؤتمر العربي الفلسطيني الأول للشباب عام ١٩٣٢، ثم انخرط في صفوف الثورة بعدها بسنوات، وصار يجمع الأسلحة ويزود الثوار بها أمثال القائد عبد الرحيم الحاج محمد والقائد عارف عبد الرازق. أما أبرز أفراد هذه الفئة فهو القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، نجل موسى كاظم الحسيني، والذي كان قائدا بارزا لفصائل الثورة في القدس وجرح أكثر من مرة في معاركها، واستشهد في معركة القسطل عام ١٩٤٨، وكان القائد الوحيد في صفوف الثورة الذي يحمل شهادة أكاديمية.

الوضع العسكري في القدس خلال ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩

شيئا فشيئا ابتدأ الفلسطينيون بالتحول من تنظيم المظاهرات وعقد المؤتمرات، إلى النشاط المسلح الموجه ضد الانتداب البريطاني، وكان الشيخ الشهيد عز الدين القسام أول من واجه عسكريا القوات البريطانية في أحراش يعبد من قضاء جنين، وذلك في ٢٠ تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٣٥، مطلقا الشرارة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى، والتي اشتعلت في ٢٠ نيسان/ أبريل ١٩٣٦، معلنة إضرابا لمدة ستة أشهر، مستمرة حتى نهايات عام ١٩٣٩، وكانت ثورة مسلحة بامتياز، وكان للقدس فيها شأن عظيم. (لمزيد المعلومات عن انطلاقة الثورة، انظر الحلقة ٦ بعنوان “اشتعال ثورة مجيدة ١٩٣٦، والحلقة ١٦/٢ بعنوان يافا تطلق الإضراب العام ١٩٣٦).

في مدينة القدس، توزع المجاهدون على ثلاثة فرق تعمل بشكل مستقل تقريبا، وفيما بعد عام ١٩٣٨، صار الشهيد عبد القادر الحسيني، قائدا عاما لهذه الفرق، من أجل تحسين الأداء والتنسيق المشترك من أجل تنفيذ عمليات كبيرة نوعية.

كانت الفرقة الأولى بقيادة فوزي القطب، وداوود العلمي، وصبحي أبو غربية. والفرقة الثانية تألفت من بهجت أبو غربية، وسامي الأنصاري، وأكرم الجاعوني، ورفيق خاروف، والأستاذ الشهابي. أما الفرقة الأخيرة فتألفت من الحاج يوسف الشرفة، وعيد عكة، وَعَبَد القادر فرحات، وحمدي الجاعوني، وحافظ بركات، وصبحي بركات، وداوود العنتبلي، وعيسى فراح، وعلي مرسي، وحافظ السدر، وَعَبَد الغني فراج، وموسى أبو حمص، ومحمد أبو ناب، وهاشم مامو.

اختلفت القدس عن باقي المدن والقرى العربية بأنها كانت تحتوي على قوات كبيرة من “الهاغاناه”، وكذلك تواجدت فيها قوات مسلحة من “الإيتسل”، وكانت هذه القوات تهاجم العرب في كل مناسبة سنحت لها، واغتالت عددا لا بأس به، بسبب أو بدون سبب، وذلك لزرع الخوف في نفوس المناضلين العرب.

كانت القدس تحتوي على الكثير من الأحياء اليهودية، وكانت هذه الأحياء محصنة ببيوت خاصة، أعدتها الهاغاناه” سابقا، ولَم يعرف عنها إلا في العام ١٩٣٦. كانت قوات “الهاغاناه” كبيرة لدرجة أنها أخذت على عاتقها، حماية نقاط الاستيطان المحاذية للقدس مثل: “عطروت” و”نفيه يعكوڤ” و”كريات عناڤيم” و”نحلات يتسحاق” وغيرها. كان عدد رجال “الهاغاناه” في بداية الثورة يزيدون عن ال ٤٢٠ نفرا، ٣٠٠ منهم مجندون لمجابهة العرب في مدينة القدس، و ١٢٠ آخرون يقوموا بالتوزع على المستعمرات المذكورة أعلاه. في نهاية الثورة عام ١٩٣٩، وصل عدد رجال “الهاغاناه” في القدس وحدها أكثر من ٢٠٠٠ عنصر، مسلحون بأفضل الأسلحة بفضل أن بريطانيا قامت بتسليحهم علنا رغم أن تنظيم “الهاغاناه” كان محظورا، فقدمت لهم الأسلحة وأعطتهم شرعيتها بواسطة ضمهم إلى جهاز الشرطة، حيث انضم إلى سلك الشرطة أكثر من ٨٠٠ عنصر من “الهاغاناه” في شهري كانون أول/ ديسمبر ١٩٣٧، وكانون ثان /يناير ١٩٣٨، وجرت مراسيم ضمهم إلى الشرطة بشكل علني في ساحة “الأليانس”، حيث أقسموا معا قسم الولاء للشرطة، فقامت الحكومة بتزويدهم بأكثر من ٢٠٠ بندقية في البداية، وازداد هذا العدد حتى بلغ المئات الكثيرة حتى نهاية عام ١٩٣٩.

أما العرب المناضلون فكانت أسلحتهم بدائية، واقتصرت على المسدسات والمتفجرات البدائية داخل مدينة القدس، أما خارج المدينة فقد كان المناضلون يملكون عددا لا بأس به من البنادق العتيقة، التي لا تفي بالغرض، ولا يمكنها الوقوف في وجه الجيش البريطاني، أو العصابات الصهيونية المسلحة جيدا.

في كثير من الأحيان فشلت عمليات جهادية، بسبب الأسلحة الفاسدة التي كان يمتلكها مناضلو القدس.

العمليات الجهادية الفلسطينية في الثورة

انطلق الإضراب العام في القدس في ٢٠ نيسان/ أبريل، أسوة واستجابة للإضراب في يافا، وأغلقت كل المحال التجارية بما فيها الدكاكين اليهودية. بعدها بيومين اجتمع رؤساء الأحزاب كافة، في مكتب حزب الدفاع الوطني وقرروا الاستمرار في الإضراب حتى إشعار آخر، وإرسال وفد إلى لندن، لوضع القضية الفلسطينية أمام الحكومة والرأي العام البريطانيين، ووقع على البيان راغب النشاشيبي رئيس حزب الدفاع الوطني، وجمال الحسيني رئيس الحزب العربي، وَعَبَد اللطيف صلاح رئيس الكتلة الوطنية، وشبلي الجمل مفوض حزب الإصلاح، ويعقوب الغصين رئيس لجنة مؤتمر الشباب.

كانت هذه انطلاقة لجهاد عصيب استمر في القدس لمدة ثلاث سنوات نأتي هنا بأهم معاركها.

في نيسان / أبريل ١٩٣٦، قام بهجت أبو غربية وسامي الأنصاري بإطلاق النار على اليهود أثناء خروجهم من سينما “أديون”، فصرع ثلاثة منهم، وجرح اثنان.

في ٢١ أيار / مايو ١٩٣٦، قام نفس الفدائيين، بنصب كمين لسيارة مفتش الشرطة في منطقة القدس المدعو “سيكرست”، وهو من أشد أعداء العرب، حيث أمعن أفراد الشرطة تحت إمرته بالتنكيل بالعرب، وممارسة الاعتقالات التعسفية بالمئات. وحدثت العملية قرب باب الساهرة داخل مدينة القدس، استشهد فيها سامي الأنصاري، ولكن العملية كانت قد تكللت بالنجاح، فقتل قائد الشرطة ومرافقوه الثلاثة.

في ٢٨ أيار / مايو ١٩٣٦، قام المجاهد بهجت أبو غربية، بقتل اثنين من الطيارين البريطانيين، عندما قدموا من أريحا إلى القدس، وكان ذلك في نفس مكان العملية السابقة. لم يتوقف بهجت هنا، بل حاول اغتيال المندوب السامي، حيث كمن له وأطلق عليه النار ولكنه لم ينجح في إصابته.

في ١٤ حزيران / يونيو ١٩٣٦، قام الثوار بقيادة جابر أبو طبيخ بالهجوم على قطار عسكري يحمل بضائع وعتاد، وتم تعطيل القطار وتدهوره إلى واد قريب.

في ٢٦ تموز / يوليو ١٩٣٦، قام الثوار بمهاجمة قافلة سيارات تابعة لشركة “أبجد”، بالقرب من باب الواد، فنشبت معركة كبيرة، وحضرت قوات كبيرة من الجند، الذين قاموا بحرق جزء كبير من الغابة التي لجأ اليها الثوار، فاستشهد ١٢ منهم وضبطت الشرطة اكثر من عشر بنادق من الثوار.

في ٢١ آب / أغسطس ١٩٣٦، أطلق كل من فوزي القطب، وصبحي أبو غربية، وداوود العلمي، واسحاق سلهب، النار على أساتذة في الجامعة العبرية، فقتلوا ستة منهم.

وقامت هذه المجموعة نفسها، بإلقاء قنبلة على مركز تدريب سري للصهاينة، مما أدى إلى مقتل البعض منهم، وألقوا قنبلة على مطعم جمعية الهستدروت، وسينما “تسيون”، وعدة قنابل في أوقات متفرقة في شارع بن يهودا، وإلقاء قنبلتين على شارع الملك جورج وقتل أكثر من عشرة يهود، ومهاجمة مستعمرة “مونتفيوري”، وقتل أربعة يهود عند باب الخليل، وقتل أكثر من عشرة جنود بريطانيين، وغيرها من العمليات التي تميزت باستعمال القنابل المصنوعة محليا، وكانت في أغلب الأحيان ضعيفة الانفجار.

في ١٥ تشرين ثان / نوفمبر ١٩٣٧، هاجم الثوار مراكز الحكومة داخل القدس، وجرت معركة استمرت لمدة خمس ساعات قتل فيها عشرة من البريطانيين والصهاينة، واستشهد أربعة من العرب.

في ٣ كانون ثان/ يناير ١٩٣٨، أطلق الثوار النار على حافلة صهيونية، مما أدى إلى قتل ثلاثة من ركابها.

في ٦ شباط / فبراير ١٩٣٨، هاجم الثوار بقيادة عبد القادر الحسيني، مستعمرة “رامات راحيل” الواقعة جنوب القدس، وشارك في القتال أكثر من ٤٥ مجاهدا، واستطاع هؤلاء قتل بعض عناصر “الهاغاناه” الذين يتولون مهمة حراسة المستعمرة.

في ليلة ٢١-٢٢ أيار / مايو ١٩٣٨، قاد الشهيد عبد القادر الحسيني أكثر من ثمانين مجاهدا، وقام بمهاجمة مستعمرة “بيت فيفان” جنوب القدس، فقتلوا عددا من رجال “الهاغاناه” وخمسة من العمال اليهود الذين يعملون في كسارة قريبة.

بعدها بليلتين أي في ليلة ٢٣-٢٤ أيار/ مايو ١٩٣٨، قامت قوات بريطانية كبيرة جدا بتطويق قرى حوسان وبتير من أجل القضاء على عبد القادر الحسيني ورجاله، فقام رجال المقاومة بنصب كمين لهم في جبل يقع بين حوسان وبتير، وحصلت معركة كبيرة، استعملت فيها القوات البريطانية أكثر من سبع طيارات، ووصلت المعارك حتى وادي فوكين ودير ياسين، واستمرت المعركة أكثر من تسع ساعات، وانتهت بسقوط طائرة بريطانية، ومقتل عشرات الجنود، واستشهاد عدة فدائيين.

في ٢٧ أيار/ مايو ١٩٣٨، قام الثوار بقيادة الحسيني بهجوم كبير على المستعمرات الصهيونية في القدس، ردا على معركة حوسان، قبلها بثلاثة أيّام.

في ١٤ آب/ أغسطس ١٩٣٨، نجا المندوب السامي من محاولة ثانية لاغتياله من قبل بهجت أبو غربية، بينما قتل بعض حراسه في المعركة التي دارت بينهم وبين الثوار.

في ٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٣٨، قام الثوار بقيادة محمد قسيس وسليمان عوامه بتنفيذ كمين مسلح ضد عشرات الجنود قرب رام الله، واستمر القتال مدة ساعة كاملة، وأسفر عن قتل ستة جنود، واستشهاد رشيد أبو هنية.

في ٢٥ آب/ أغسطس ١٩٣٨، قام المجاهدون بقتل ثلاثة جنود بريطانيين عند باب الخليل، ولَم يَصْب اَي ثائر بأذى.

الاعتداءات الصهيونية خلال الثورة

قامت عناصر “الإيتسل” و”الهاغاناه”، بتنفيذ اعتداءات دموية كثيرة على المواطنين العرب في القدس، من أجل تخويفهم وإرهابهم وثنيهم عن ثورتهم المسلحة. وكانت هذه العمليات الانتقامية من العرب، تقع خاصة في أعقاب تنفيذ عمليات للمقاومة ضد أهداف صهيونية.

في ٢٨ آب/ أغسطس عام ١٩٣٦، ألقى أفراد من “الهاغاناه” قنبلة يدوية على عمال عرب بجانب مستشفى هداسا، مما أدى إلى استشهاد عربي وإصابة آخرين.

في ٣١ آب/ أغسطس ١٩٣٦، أطلق الحراس اليهود النار على عربي بجانب “نڤيه يعكوڤ” فأردوه قتيلا.

في ٦ آذار/ مارس ١٩٣٧، قام عضوان من “الإيتسل” باغتيال عربي اسمه محمد حسين، حيث أطلقا الرصاص على رأسه، وجرحا ابنه البالغ ١٢ عشر عاما.

في ٢٥ كانون الثاني/ يناير ١٩٣٨، تم اغتيال شاب عربي في شارع “بتسلئيل” وذلك في أعقاب مقتل سائق يهودي اسمه نسيم دوراني.

وفِي ١٤ تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٣٧، قام قائد “الإيتسل” في القدس المدعو دافيد رازئيل، بإرسال ثلاث وحدات من أجل تنفيذ عمليات انتقامية من العرب بشكل استعراضي، وقامت هذه الوحدات بقتل عربي وجرح اثنين في شارع غزة، وقتل عامل عربي بالقرب من حي “بيت يسرائيل”، وأدى قتل هذا العامل إلى شجار قوي بين العرب واليهود مما أسفر عن قتل يهودي. واستمر عناصر “الإيتسل” بجرائمهم، فألقوا قنبلة على سيارة عربية مرت في “محنيه يهودا”، مما أدى إلى مقتل ثلاثة من العرب، إمرأتين ورجل.

أما قوات “الهاغاناه” فقد حصلت على دعم مباشر من الحكومة، ودخل عناصرها الشرطة، كما تقدم، وصاروا يجوبون الطرقات بشكل علني، وينصبون الكمائن للعرب ويفتشون أمتعتهم، وحتى إنهم كانوا يقبضون على مجاهدين ويزجونهم في السجن، كما حصل مع مجاهد عربي كان يحمل قنبلة في جيبه، وسجن على أثر القبض عليه من عناصر “الهاغاناه”، لمدة عشرة أعوام، وكان ذلك في ٢٩ كانون ثان / يناير ١٩٣٨.

كان مجموع الشهداء العرب حتى بداية سنة ١٩٣٨، جراء هذه الاعتداءات أكثر من ١٢ شهيدا. وبعد فترة من الهدوء استمرت عدة أشهر، عادت العصابات الصهيونية إلى عملياتها الانتقامية، حيث تم قتل عدد من العرب في الطريق بين “بيت فيغان” و”بيت هكيرم”، وكان بين الشهداء راهبة كانت تستقل حافلة عربية.

في البلدة القديمة حيث تمركز أغلبية العرب، كانت قوات “الهاغاناه” تتمركز في مستشفى “مسعاف ليدخ”، وكانوا يخفون أسلحتهم ويتنكروا بملابس مستخدمي المستشفى، ومن خلال هذا المركز كانوا ينطلقون لتنفيذ عملياتهم الإرهابية ضد المواطنين العرب.

وهكذا مرت الثورة الفلسطينية على أهالي القدس الصامدين، وهم يواجهون عدوين شرسين، الجيش والشرطة البريطانية من جهة، والعصابات الصهيونية من جهة أخرى، ولكن القدس العربية، بقيت صامدة في وجه قواتهم، واكتسب مجاهدوها خبرة قتالية، ستساعدهم في معاركهم القادمة من أجل الحفاظ على القدس، ومنع سقوطها في أيدي الصهاينة. في الحلقة القادمة سنتناول معارك القدس إبان النكبة.

Please follow and like us:
Pin Share
اترك رد
مصر الطقس من أخر الأسبوع
RSS
Follow by Email